السبت، 1 يناير 2022

فلم فرانسيس بيكن: لوحة ملطخة بالعنف - ترجمة علي البدري


 ترجمتي للفلم الوثائقي: لوحة ملطخة بالعنف
عن حياة وأعمال الفنان الإيرلندي/البريطاني فرانسيس بيكن
مدة الفلم: ساعة و19 دقيقة 

اضغط هنا للمشاهدة أو التحميل

الخميس، 30 ديسمبر 2021

بووي: حياة مصورة - ترجمة علي البدري

 




أقدم لكم ترجمتي لكتاب "بووي: حياة مصورة" من تأليف فران رويز ورسومات ماريا هيسه
عدد الصفحات: 
108
صيغة الملف:PDF
اضغط هنا لتحميل الكتاب 

الاثنين، 27 يناير 2020

بودفاين بوخ: عبقري أم مخادع؟



في ربيع عام ١٩٧٠م أعلن الشاعر والروائي الهولندي بودفاين بوخ بشكل مفاجئ نبأ أبوّته للجميع. تساؤلاتُ كلّ مَن حوله كانت عبارة عن: كيف، مَن، ومتى؟ في وقت لاحق تبيّن أن المولود الذي أطلق عليه اسم بودفاين إسكندر كان ثمرةَ علاقةٍ غير شرعية مع امرأة متزوجة تعيش في مدينة لاهاي. لكن هذا الحدث، والذي كان بمثابة الصاعقة على بودفاين بوخ قبل غيره، لم يمنعه من تحمل مسؤولية رعاية الطفل الذي أتى نتيجةَ ليلةٍ أفرط فيها في شرب الكحول. وبالفعل، وعلى مدى خمس سنوات كان بوخ مواظباً على زيارة ابنه نهاية كل أسبوع، وأخذِه للتنزه في حدائق ومنتزهات أمستردام، وزيارة صديقه الكاتب بيتر فان زونفيلد. لكن علاقة بوخ بماريان، والدة ابنه والحاصلة على حق الوصاية بشكل قانوني، لم تكن مثالية، ففكرة تركِ بوخ ابنه مع أمّ لم تستطع التغلب على إدمانها على الكحول لم تكن بالفكرة المريحة.

في ديسمبر ١٩٧٥م رحل بوخ برفقة صديقيه بيتر فان زونفيلد وجاك فان ألفين إلى جزيرة تيرشخيلين شمال هولندا. في أحد الأيام التي توسطت عطلة عيد الميلاد ورأس السنة، أجرى بوخ اتصالا هاتفيا من الجزيرة إلى لاهاي وذلك للاطمئنان على ابنه، لكن الأخبار على الطرف الآخر من الهاتف لم تأتِ بما يسرّ. الصغير يرقد في مستشفى المدينة وهو في حالة غيبوبة. في تقرير صحفي أجري بعد سنوات من تلك الحادثة، قال الصديق جاك فان ألفين: "على متن السفينة التي أبحرت من الجزيرة إلى ساحل هولندا الشمالي لم ينطق بوخ بأية كلمة. كان صامتاً. لم يسألنا إن كنا نريد مرافقته إلى المستشفى أم لا". هناك، أعلمه الطبيب على عدم مقدرته علاج الورم الموجود في رأس بودفاين إسكندر وأن الفتى ميّت إكلينيكيً. ظل الورم ينمو في رأسه منذ الولادة، ولم يتم اكتشافه إلا بعد فوات الأوان.

جاءت الأخبار الأخيرة في السادس من يناير ١٩٧٦م. مات بودفاين إسكندر قبل أن يكمل عامه السادس. تقول صديقته بيرناديت خاليس التي التقت بالطفل مرة واحدة عندما طلب منها بوخ أن تقّلهما بسيارتها من أمستردام إلى لاهاي: "كانت أياماً عصيبة جدا، لم أرَ صديقي أكثر حزناً من ذلك اليوم". وكعادة أغلب الناس في هولندا، قرر بودفاين بوخ أخذ جثة ابنه إلى محرقة أوكنبورخ في لاهاي. لم يترك لأي أحدٍ الفرصةَ للقدوم معه إلى المحرقة، أراد الاختلاء بابنه في لحظاته الأخيرة، لكنه وافق على أخذ مبلغ ٦٠ خيلدرز (ما يعادل ٢٧ يورو اليوم) من صديقه الكاتب هاري جي ام بريك وذلك لدفع رسوم حرق الجثة.

في لقاء أجري مع بوخ بعد سنوات، سأله مُحاوره عن الأثر الذي تركه ذلك الحادث المؤلم في نفسه، فكان أن أجاب: "لم يكن بالإمكان إنقاذه. كانت سنواتي المعدودة معه أكثر سنواتِ حياتي سعادة. أتذكر ذلك اليوم الذي أخذته فيه إلى حديقة آرتيس للحيوانات، قضينا معا عدة ساعات هناك، لم أرَه أكثر بهجة من ذلك اليوم. إن أسوأ ما قد يحصل لك هو أن تفقد طفلك، وخصوصً إذا كنت تراه في كل مكان وفي كل شيء. كان يعشق الموسيقى التي أستمع إليها كل يوم، وكان يحب فرقة رولنغ ستونز وأغنية Satisfaction".

موت الطفل أصبح الثيمة الأساسية لأعمال بودفاين بوخ اللاحقة، وبالأخص روايته الأشهر (موت الأشقر الصغير Kleine Blonde Dood) الصادرة عام ١٩٨٥ عن دار دا اربيدرسبير. إذ تتقاطع تفاصيل الرواية بشكل رئيس مع حياة الكاتب: علاقته مع والده اللاجئ اليهودي الذي دمرته الضغوط النفسية نتيجة ما رآه من فظائع ارتكبتها قوات الحزب النازي تجاه اليهود في جميع أنحاء أوروبا مؤديةً إلى انتحاره بعد الحرب العالمية الثانية، واستياؤه من نظرة القراء إلى الشعر الحديث، وعلاقاته الجنسية العابرة، وطبعا أبوّته المفاجئة وفاجعة موت ابنه. استقبلت الأوساط الأدبية هذا العمل بحفاوة شديدة، مما جعله واحداً من أهم الأعمال في الأدب الهولندي المعاصر وأحد الأعمال الأدبية المقررة في المنهج الدراسي لطلبة المرحلة المتوسطة اليوم.

لم تجد الرواية طريقها بعدُ إلى الإنگليزية أو غيرها من كثيرٍ من اللغات (ترجمت إلى الألمانية فقط)، كحال غيرها من الأعمال الروائية والشعرية الهولندية. وهذا ما دفعني إلى الشروع في ترجمتها إلى العربية بمساعدة مجموعة من الأصدقاء الذين ساعدوني في تفسير تفاصيل النص. الفقرة التالية عبارة عن ترجمة لجزء من الرواية آنفة الذكر:

"في الواقع، ابنك ميت سريريا." قال الطبيب الذي ارتدى معطفا ناصع البياض إلى درجة جعلت عينيّ تشعران بالألم.
"لم يعد لدينا أيّ أمل إذن؟"
"لا، على المستوى الإنساني، ليس هنالك أي أمل."
سألتُ الطبيب ما الذي كان يقصده عندما قال "على المستوى الإنساني." بخفة، ضرب أصابعه على سطح مكتبه ونظر باتجاهي، ثم اقترب: "لا أريد أن يخرج ما سأقوله لك إلى خارج هذه الغرفة. ابنك ميت."
"إذن، لماذا أراه يرقد هناك وجميع أشكال الصمامات موصولة به؟ لماذا هو مخبّأ ذلك الجهاز الذي يصدر ضجيجا تحت سريره؟ وما الهدف من وقوف أنبوب الاكسجين بجانبه؟"
"قد نستمر على هذا الحال لسنوات."
"تقصد أن ميكي سيستمر على هذا الحال لسنوات؟"
"على هذا الحال."
الطبيب الذي كان في عمر مقارب لعمري قال إن ابني قد يبقى لسنوات "على هذا الحال" جلس بطريقة لم أنسها أبدً. ما زال شريط تلك اللحظة يدور في مخيلتي. وضع يديه على ملف الأوراق الممدد فوق مكتبه، ولمست أصابعه الصغيرة أطراف الملف المغطى بجلد صناعي. بدا خاتم الزواج بارزا على يده اليمنى. أمال ظهره على الكرسي قبل أن يرفع رأسه. عيناه حدقتا في تعابير وجهي، بينما تطابقت شفتاه بشكل مستقيم وكأنه على وشك طرح أسئلة جديدة، لكنه لم يفعل. بعد مرور عدة دقائق، وقفتُ وخطوتُ عدة خطوات بلا معنى حول غرفته. مشيت حول طاولةٍ موضوعٌ على سطحها الزجاجي كتابٌ بعنوان "دليل الأدوية والمعدات الطبية." ألقيت نظرة على الكتب في مكتبته، كتب سميكة، على أغلفتها صورٌ لطيورِ الكناري وعشبٍ أخضر. نظرت نحو الجدارِ وشهادتِه الطبية المعلقة عليه قبل أن أجلس مرة أخرى.
قال بصوت خافت:"القرار يعود إليك."
"تقصد بأن أسمح لك بفصل الأنابيب عنه وإطفاء أجهزة التنفس؟"
"أجل."
فجأة أصبح القرار النهائي عائداً إليّ. ميكي على وشك أن يبلغ السادسة وهو نائم. قد يبلغ العاشرة أو حتى الثانية عشرة من عمره، سيكبر وهو في حالة نوم لا نهائي. كان واضحا انشغالُ الطبيب الذي كان يجلس بالقرب مني بتخمين ما يدور في رأسي:
"ليس من العدل أن تُنزل على نفسك هذه العقوبة. عقوبة البقاء متأملا عودته من الغيبوبة يوما بعد يوم، أو شهرا بعد شهر، أو حتى سنة بعد سنة. لن يقودك هذا الأمل إلى نتيجة. أرى أن ترك ابنك بهذه الحالة لن يفيده أو يفيدك. رأيت أمهاتٍ وآباءَ يفقدون عقولهم، يأتون إلى هنا ويجلسون إلى جانب أطفالهم، آملين أن يفيقوا من سباتهم يوما ما."

نقل النجاح الجماهيري والاستقبال النقدي للرواية بودفاين بوخ إلى مرحلة أخرى، من مرحلة كاتب جيد يحظى بعدد متوسط من القراء إلى الكاتب الأكثر شهرة على الاطلاق. حولت روايته إلى فيلم سينمائي اختارته هولندا لتمثيلها في جوائز الأوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي، وعَرضت عليه إحدى القنوات التلفزيونية العمل على برنامج تلفزيوني أسبوعي عن الأدب العالمي. وبالفعل قبل بوخ بالعرض وأصبح برنامجه (عالم بودفاين بوخ) حديثَ الأوساط الأدبية الهولندية. في إحدى الحلقات تحدث عن موسيقى الروك آند رول وقال إنها لا تقل في قيمتها الفنية والأدبية عن الروايات والشعر، ودخل في جدال طويل مع أحد الأدباء عندما قال إن مغني فرقة رولنغ ستونز ميك جاگر لا يقل أهمية عن الشاعر الألماني يوهان فولفغانغ غوته. أبرزَ البرنامجُ شخصية بوخ المثيرة للجدل التي زادت بدورها من شعبية الكاتب وقبوله. لكن كل شيء تغير بعد وفاته في نوفمبر ٢٠٠٢م. ظهر باتريك، شقيق بودفاين بوخ، وقال إن شقيقه كذب على الجميع بما فيهم عائلته وأصدقائه. فالصبي، بودفاين إسكندر، لم يمتْ بل هو على قيد الحياة، وقال إن بودفاين إسكندر ليس ابن شقيقه أصلاً، بل إنه ابن صديقة له تدعى ماريان فيرفي، أخبرها بوخ بشكل مفاجئ أنه سيسافر إلى إفريقيا وسيبقى هناك لمدة سنة، وفي تلك الأثناء قطع بودفاين بوخ كل سبل التواصل معها. وعند سؤاله عن حقيقة انتحار والده قال باتريك: "غير صحيح، نحن عائلة هولندية كاثوليكية، لم يكن والدي لاجئا ولم ينتحر، بل مات بسكتة قلبية."

توجهت الصحافة إلى أصدقاء بوخ أولاً، فهم بالفعل التقوا الطفلَ برفقة بودفاين بوخ. المصور الفوتوغرافي مارك بليسيه قال: "لا أفهم ولا أعرف ما الذي يجري، لا يمكن أن أصدق ما يقال. نعم أعرف الآن أنه كان يكذب لكن لا يمكنني أن أصدق. كان هنا قبل سنوات، هنا في منزلي، وعندما وقعت عيناه على صورة لطفل أشقر على الرف شرع في البكاء وطلب مني إزالتها بحجة أنها كانت تذكّره ببودفاين إسكندر، وهذا ما فعلتُ." وفي حوار صحفي قالت بيرناديت خاليس: "كنت قد أخذتهما مرة بسيارتي من أمستردام إلى لاهاي، لكنه طلب مني أن أركن سيارتي بعيداً عن منزل والدة بودفاين إسكندر، قال لي إنها سوف تشعر بالغيرة من وجود امرأة أخرى معه." الأمور لم تتوقف هنا. إذ قال جان فان ديفليده، المخرج الذي حول الرواية إلى فلم سينمائي عام ١٩٩٣م: "قبل العرض الرسمي الأول للفيلم طلبتُ من بودفاين بوخ أن يكون موجودا في قاعة السينما، فهو البطل الحقيقي للقصة، وحضوره سيكون بمثابة حملة دعائية قوية للعمل، لكنه هاتفني قبل ساعات من العرض وأخبرني عن عدم قدرته على الحضور لأن والدة بودفاين إسكندر شاهدت الفيلم فكان أثره سلبياً للغاية على نفسيتها مما دفعها إلى قتل نفسها."

أخيرا عثرت الصحافة على الصبي بودفاين إسكندر. كان يبلغ الثالثة والثلاثين عندما تحدث إلى العامة لأول مرة قائلا: "كانت أمي مصابة بداء السكري، شرب الكحول كان سيؤثر سلباً على صحتها. لا لم تكن مدمنة." قال إن كل ما يتذكره من رحلته الى أمستردام برفقة بوخ هو الجلوس في الحانات بجانب رجال يدخنون ويشربون. ولم يأخذه الكاتب إلى حديقة الحيوانات أبداً.

لم تتوقف كتب السيرة الذاتية والمقالات عن بودفاين بوخ حتى بعد مرور ما يقارب خمسة عشر عاماً من رحيله، وما زال الناس يتحدثون عنه. فريق أول يرى فيه الشخص المجنون والمخادع الذي يضع قمم الثقافة الغربية المتمثلة بيوهان فولفغانغ غوته وفريدريك شيلير في خانة واحدة مع ميك جاگر، يرى فيه شخصا أحمق يظهر على شاشة التلفزيون مرتديا تي شيرتا لفرقة موسيقية ويتحدث عن سيلفيا بلاث. وفريق آخر يعتقد أن له دوراً رئيسياً في تشكيل الثقافة الأوروبية في الربع الأخير من القرن العشرين.



نشرت في مجلة سبيل

السبت، 9 فبراير 2019

[ترجمة] ذكريات برائحة الجازولين - ديفيد فيوناروفيتش




ذلك الوجه، أعلم أنني رأيته من قبل. كنت في اللوبي الخاص لدار السينما، أقف بين جموع الناس التي انتظرت الدخول إلى صالة العرض لمشاهدة فلم تدور قصته حول مجموعة مراهقين يخفون سر جثة شخص ميت. شُرعت الأبواب وتدفق مئات الناس مثل السيول الجارفة إلى الخارج. الفلم الذي كان يعرض مسبقاً قد انتهى للتو. في تلك اللحظة وقعت عيناي على ذلك الوجه. بين الزحام، وجه بلا هوية يضغط زر الذكريات في رأسي. تجمدتُ عندما بدأ حجم ذلك الوجه بالتضخم، تمدد طوله حتى وصل ارتفاعه إلى خمسة أقدام، ذلك قبل انفصاله عن الجسد والطفو في العتمة. أظنه قد تجمد هو الآخر. كانت بشرته رمادية باهتة، وشعره مُسرح بعناية حتى التصق حول جمجمته. شفتاه متراصتان، دقيقتان وصافيتان. توسعت عيناه التي لا لون لهما للحظة. وقفنا هناك، وحاول كل منا فك شفرة ماضي الآخر، والوصول إلى معرفة ذلك الوجه المألوف. سُحلت، وتم قذفي من نافذة لغرفة في الدور الثاني، خُنقت وضُرب رأسي بواسطة قطعة من الرخام. تلقيت أربع طعنات على الأرجح، لُكمت على وجهي لسبعة عشر مرة تقريباً، عانى جسدي من ضربات لا يمكن عدها. فقدت وبشكل كامل القدرة على التنفس، واستيقظت من النوم مرة، لأجد نفسي مقيداً في سرير غرفة فندقية، حيث تدفق كل الدم داخل رأسي المتدلي إلى الأسفل، حتى شعرت أنه على وشك الانفجار. حدث كل هذا قبل أن أبلغ الخامسة عشرة من عمري.



أفسر حدوث ذلك لإقبالي عن المغامرات، أو لأني كنت صبياً يقدم الجنس مقابل المال في مدينة نيويورك. لم يعني لي الموت أي شيء في تلك الفترة من حياتي، وتضاربت مشاعري تجاهه. في الوقت جاهدت فيه لكسب المال لأطعم نفسي، أو للحصول على مكان للنوم لليلة واحدة، بدت لي فكرة الموت جذابة، كان الموت هو الحل البديل. كنت أتسكع بملابس لم أغيرها أو أغسلها لشهور، لدرجة انه كان بمقدوري رؤية انعكاس وجهي من بنطالي إذا اقتربت كفاية منه. تعودت السير وبشكل دوري إلى محطة بورت اثوريتي كلما حصلت على مال إضافي مقابل الجنس في فندق رخيص في الجادة الثامنة. اذهب إلى هناك وابدأ النظر إلى أسماء القرى المكتوبة على زجاج شباك التذاكر، وغالباً ما وقع اختياري على وجهة تتميز بطبيعتها المائية. أشتري التذكرة وأركب الحافلة، ولا أطلب من السائق التوقف إلا عندما ألمح بحيرة أو بركة، وغالباً ما أجادله لأن تلك المناطق لم تكن مجدولة كمحطات للتوقف. بعد أن أنزل من الحافلة، أمشي في الحقول وأدخل في مياهها حتى تغطي رقبتي. لم أكلف نفسي عناء خلع حذائي أو ملابسي. كنت أطفو لساعات ومن ثم أعود إلى الطريق لأستوقف السيارات واطلب من سائقيها إيصالي إلى محطة وقوف الحافلة، أو حتى لأخذي إلى المدينة.

عندما أعدت النظر نحو ذلك الوجه، لاحظت بدلته ويديه، وظهر كفيه، وأظافره المشذبة، فتذكرته. ربما لاحظت كل ذلك بسبب قوة إضاءة اللوبي أو بسبب ضعفها عندما فتحت أبوابه وبدأ الناس بالخروج. ربما بسبب لون جسده، الذي ظهر وكأنه فاقد للأوكسجين، ربما بسبب نظرة الترقب أو الخوف. أتذكر تلك الليلة قبل خمسة عشر سنة، عندما كنت ألهو في تلك البركة، وأغوص في مياهها باحثاً عن شيء حي. كانت الشمس تسرع في غروبها، وكنت أشعر بالبرد. لم يساعدني حجم القرية الصغيرة على العثور على طريقة للعودة. لم أعرف حقاً أين كنت.

عيناه، وجهه الرمادي المنفصل عن جسده يطفو في حيز ظلام نافذته المفتوحة. شاحنته الحمراء الصغيرة والمهترئة وقفت على جانب الطريق، لوّح لي بالصعود. اعتقدت أن بشرته كانت مزيفة، شيء يشبه المطاط الشفاف. سألته إلى أين سيذهب، أوه، بعيداً. صوت رقيق مغلف بنبرة ودودة لا أميل لها. قاد مركبته وعم الصمت لفترة قصيرة، ونظرت خارج النافذة نحو المنازل المضاءة، ولمحت بشكل عابر تفاعل الناس مع بعضها البعض، وكلب يجري بذعر في الطريق السريع. قال لي أنه يعمل لصالح بنك في المدينة، ولسبب ما، أصابني ذلك بالكآبة، ربما لأن عقلي ترجم رسمية عمله إلى صور سنوات من الكتابة في دفتر السجلات وأكواب من القهوة الفاسدة والتعامل مع الناس المحتاجة. في لحظة ما، أخرج قضيبه وحدق باتجاه الزجاج الأمامي، ناحية الفنارات المضيئة للطريق. مسك المقود بيد وداعب قضيبه بالأخرى. كان جسدي يميل إلى الباب ولم أجب عندما همهم بشيء ما عن ذلك المكان الذي نستطيع الذهاب إليه. انعطف يساراً وسرنا فوق طريق ترابي يؤدي إلى أحراش تقع فوق التلال. أتذكر رؤيتي للعث والحشرات وهي تغوص في ضوء السيارة الأمامي، ولافتة خشبية صغيرة عليها شعار الكشافة، ومجموعة متفرقة من الأكواخ. كان خرير مياه البحيرة بالقرب منا.

خرج من السيارة وفتح باب الراكب الأمامي الذي جلست خلفه. لم أتحرك. كان قد أوقف محرك السيارة وأطفأ أنوارها الأمامية. أخرج. شعرت بتعب لا أذكر أنني مررت بمثله. مددت رجلي خارج المركبة ووقفت أمامه واضعاً يدي في فتحتي جيوبي. ازدادت سرعة الريح وجلبت معها مطراً خفيفاً. مسك بذراعي ورفع مزلاج باب الكوخ الخلفي. تسللت يده الأخرى إلى وجهي ومن ثم طوقت مؤخرة رقبتي، استوعبت أنني أقاد إلى المكان المظلم من الكوخ. زحفت بخضوع إلى الداخل، كان المكان مليئاً بالبطانيات وحقائب النوم وصناديق لأشياء أجهلها. كان المكان رطباً وتفوح منه رائحة التراب والزيت. دخل خلفي واغلق الباب. تقلص كل شيء، طغت الروائح وصوت الشجر وصرير خطوات حذائه على المكان. غطت صورته الظلية على ما تبقى من أضواء صغير قبل أن يستلقي إلى جانبي.


سمعت صوت سحاب بنطاله. تحركت يده على رقبتي، سحبني. قلت له أنني أود العودة إلى المنزل. ما الذي تتحدث عنه؟ لم أر أي شيء. تساقط المطر بغزارة، المياه تزيد الظلام عتمة. لا أعلم، أجبته. سألت نفسي إلى أين كنت سأذهب لو لم يوقف مركبته لي. أتفضل أن أدخله في مؤخرتك؟ لا. حسناً، قال ذلك ومن ثم ضربني، بقوة.

أفقد قدرتي على النظر بينما يقّلبني حول نفسي، مرة، بعد مرة، بعد مرة. أين أنا؟ في حقل موحل، في مؤخرة شاحنة تعود لرجل غريب، ومركونة أمام سياج، الرجل الغريب يضع كل ثقله على ظهري، وأشعر أنني أقذف من منطاب عملاق. حبل باهت يخرج من صندوق كرتوني ويلفُ يدي خلف ظهري. كنت منبطحاً على بطني، ولو صرخت طلباً للنجدة، فلن يصل صوتي سوى إلى المنازل المهجورة الواقعة على بعد أميال من الطريق المظلم والفارغ، أو إلى المصانع المغلقة في الطريق السريع. يشد شعري، يسحب رأسي إلى الخلف حتى يبان وجهه مقلوباً ومبتسماً. لكن ابتسامته كانت شبيهة بالعبوس، كانت مقلوبة، يميل نحوي ويقبل عيني. تغطت النوافذ بالضباب، ففتح واحدة. أستطيع أن أرى نور عابر لحشرة.

يصفع مؤخرتي العارية، يدخل لسانه في أذني، ويمرره نزولاً إلى رقبتي، يقلبني مرة بعد مرة. 
ارتبك من رائحة الحديد المبلل والأقمشة السميكة عندما يقع رأسي على البطانية أو حقيبة النوم.
لماذا يضع ركبته فوق رأسي، فأنا لست دمية بأعضاء قابلة للاستبدال. يضع بطانية ملفوفة تحت جسدي العاري ليجبر مؤخرتي على الارتفاع. لم يعد بإمكاني الإحساس بيدي، توقفت دورة الدم. يا للسخرية، كيف كانت حياتي تسير ببطء حتى أتت هذه اللحظة، الآن أنا أتوسل منها لكي تنتهي. قهقه واختفى من الشاحنة. أسمع صوت خطواته فوق الأرضية المبللة، قبل أن يدخل مجدداً. يستلقي فوقي. أشعر بالبرد، لكن جسده يزودني بحرارة حادة. تي شيرته مخلوع وبنطاله منزوع. بدأ بدفع جسده فوق جسدي بحركة ميكانيكية، ذراعه ملتوية حول وجهي. العق هذه. تدفع أصابع شيء ما في فمي: إنها حشوة من الطين والتراب.


أنه يعاملني وكأنني ملكه. أنا عالق، وضائع وبلا أمل، ولا شيء أألفه هنا. ربما الآن سأرتاح، ربما سيسحق جمجمتي أو يخنقني. الآن، أتذكر شيئاً حدث قبل ذلك، عندما فك حزامي وأسقط بنطالي إلى كاحلي وبدأ بجلدي بكل ما استطاع من قوة، آلمني ذلك كثيراً، وحاولت بكل قواي لكي أُثار جنسياً. حاولت أن أتخيل أنها كانت ضربات لطيفة، أو أن أتخيله أنه كان رجلاً وسيماً، حاولت تخيل أنني أسير على بعد ميل. هيا اضربني، قلت له، محاولاً الادعاء أنني أحب هذا، ربما سيشعره هذا بالملل ويتوقف. قلبني مرة بعد مرة، بحق الجحيم، لماذا يفعل هذا؟ مد يده نحوه الظلام البعيد، فسمعت صوت علبة لسائل، علبة لها صوت المعدن، وسائل يتحرك مثل غاز الولاعة، أو الغازولين، هذا ما تخيلته. أهذا ما يحدث؟ تخيلت اللهب، تخيلت جسدي مثل قطعة لحم تركت في النار أكثر من اللازم، متفحم ومحترق، وتخرج منه العظام. شعرت بسريان السائل فوق مؤخرتي، ذكريات طفولتي عن ذلك الزيت الذي يستخدم للأطفال تغرق المكان. 



أريد أن أموت، أريد أن أموت، أريد أن أموت. لو كررتها، هل سيتبدد خوفي من يده التي قبصت على عنقي؟ أغرق في هذا المكان المظلم، ويده تنزلق إلى فلح مؤخرتي. أوه، يا لها من هدية منك، قال. يجذب ذراعي المقيدتين ويدفع بثقله الكامل نحوهما، ويثبت مرفقي بطريقة مؤلمة على الأرضية المعدنية، ويدخل قضيبه داخلي. أنه يعض خدي، يصفعني، يصفعني، يدفن رأسه في رقبتي ويعضني مرة أخرى. ما زلت أغرق في المكان المظلم. أربعة أصابع في فمي، يقبل عيني، ويلهث بقوة في أذني، يتحرك كآلة أيعجبك هذا الإيقاع المنتظم؟ آه.   

الأرشيف الخامل في رأسي يحمل ذكريات قادرة على تغيير مسارها، أما أن تتلاشى أو تركض نحوي باحثة عن مأوى. في اللحظة الذي اخترق فيها جموع الناس قادماً ناحيتي، انكمشت ذهنياً وصرت طفلاً بلا قدرة على الدفاع أو حتى الوصول إلى السكين الصغيرة في جيبي. أردت أن تنبت الجدران من الأرض وتقف بيننا، أردت دزينة من جدران الإسمنت والفولاذ لتفصلنا، لتمنع يديه من لمسي. لكنني أعلم أنه قادر على المرور من خلالها مثل حلم مجنون. شعرت أنه يستنزف دمي هناك في المكان المزدحم. اختفت كل ذكرياتي وقدراتي على الحديث، علمت أنني قادر أخيراً على ابرحه ضرباً، لكنني علقت في رأس طفل يبلغ الخامسة عشر. ظللت أفكر، أردت أن أقتل نظرته. فقدنا أثر بعضنا البعض عندما انكمشت للحظة وأنا في طريقي إلى دورة المياه. دخلت وجلست فوق المرحاض المغلق لفترة طويلة مصغي السمع للناس الذي يدخلون للتبول. 



كان قد اختفى عندما صعدت أخيراً. لكنني ما زلت أشعر بنظرته تسيطر على المكان، ظلت هنا مثل رائحة حريق هائل.

الاثنين، 25 يونيو 2018

فلم حلوى تركية: رابط لملف ترجمتي للفلم


  
 .استكمالاً للمنشور السابق، أضع هنا ترجمتي للفلم المستند على رواية حلوى تركية للكاتب الهولندي يان فولكرز
 .الفلم من انتاج سنة 1973 واخراج بول فيرهوفن. يمكنكم تحميل ملف الترجمة هنا